وملخص الخلاف كما قال
ابن تيمية .
وأما بيع الفضة بالفلوس النافقة هل يشترط فيها الحلول والتقابض كصرف الدراهم بالدنانير فيه قولان هما روايتان عن أحمد : إحداهما : لا بد من الحلول والتقابض ، فإن هذا من جنس الصرف ، والفلوس تشبه الأثمان ، فيكون بيعها بجنس الأثمان صرفًا .
والثانية : لا يشترط الحلول والتقابض ؛ لأن الفلوس من باب العروض والثمنية طارئة ، وسُئل رحمه الله عن الفلوس تشترى نقدًا بشيء معلوم وتباع إلى أجل بزيادة فهل يجوز ذلك أم لا؟
فقال رحمه الله : في المسألة خلاف مشهور بين العلماء على قولين : هما قولان عند
الحنفية وقولان أيضًا
|
| ( الجزء رقم : 39، الصفحة رقم: 309) |
|
عن
الحنابلة :
أحدهما - منصوص
أحمد وقول
مالك وإحدى روايتي
أبي حنيفة : أنه لا يجوز ، وقال
مالك : وليس بالحرام البين .
والثاني : وهو قول
الشافعي والرواية الثانية عن
أبي حنيفة ،
وابن عقيل من أصحاب
أحمد : أنه يجوز ، ومنهم من جعل نهي
أحمد للكراهة ؛ فإنه قال : هو يشبه الصرف ، والأظهر المنع من ذلك ، فإن الفلوس النافقة يغلب عليها حكم الأثمان ، وتجعل معيار أموال الناس

، ويبدو أنه لخلافهم ، حول الثمنية في علة الربا ، دور كبير في تحديد موقفهم من الفلوس ؛ فالذين يرون جوهرية الأثمان وغلبتها هي العلة ، قالوا : إن الفلوس لا تعد مالا ربويًّا ، أما الذين قالوا بأن مطلق الثمنية علة في الربا ، وهم
المالكية ، جعلوا الفلوس مالا ربويًّا ، والذي يبدو - والله أعلم- أن القول بربويتها ، حال رواجها ، هو الصواب ؛ لأن النقدية تثبت بالاصطلاح ، ويجري على النقد الاصطلاحي الرائج ما يجري على الذهب والفضة .
وبما أن جمهور الفقهاء على اعتبارها أثمانًا برواجها - فإن ذلك يستلزم ما يلي :
1 - اشتراط الحلول والتقابض ، في حال صرفها ، بنقود الذهب والفضة .
2 - يجب أن نؤكد على أن ربا القرض ثابت فيها ، وفي كل الأعيان الأخرى ، فلا يجوز إقراض مائة فلس بمائة وعشرين مؤجلة ، باتفاق الفقهاء جميعًا .
وقول
النووي في المجموع :
إذا راجت الفلوس رواج النقود - لم يحرم الربا |
| ( الجزء رقم : 39، الصفحة رقم: 310) |
|
فيها ؛ أي ربا الفضل ، فيجوز التفاضل فيها بشرط الحلول والتقابض في المجلس ، أما ربا النسيئة فهو محرم إجماعًا في أماكن أخرى من المجموع .
3 - اتفق الفقهاء على جواز التعامل فيها ، وهي حال رواجها لا تتعين بالتعيين عند
الحنفية ، أما الكاسدة فلا بد من تعيينها ؛ لأنها تصبح عروضًا لا أثمانًا ، وللفقهاء في أحكام كسادها وانقطاعها أحكام ، فصّلتها في موضوع مستقل حول أثر تغير سعر العملة .
4 - يجوز السلم في الفلوس بشرط اختلاف النوع ، كفلوس شامية بمصرية ، أما إذا اتحد جنسها - فإن تأخير أحد العوضين من ربا القرض المحرم بإجماع ، ولكن هذا لا يعني صحة التصارف بالورق النقدي - حالّة ومؤجلة ، متساوية ومتفاضلة ، قياسًا على الفلوس ، فللورق النقدي حكم آخر .
|
| ( الجزء رقم : 39، الصفحة رقم: 311) |
|
الورق النقدي في نظر الفقهاء : اختلفت أنظار الفقهاء للورق النقدي ، بعد سريان التعامل به ، إلى أقوال نستعرضها بإيجاز في الصفحات التالية :
القول الأول : قياسها على سندات الديون .
اشتهر هذا القول عن المرحوم الشيخ
محمد الأمين الشنقيطي ؛ حيث قال :
بوجوب زكاتها ؛ لأنها وثائق ضمان من السلطان 
، وهو رأي المرحوم
أحمد الحسيني في كتابه : (بهجة المشتاق في حكم زكاة الأوراق ) ؛ حيث قال :
بأن هذا الورق النقدي سندات ديون ، سواء كتب عليه وجوب دفع مبلغ من الذهب أو الفضة لحاملها ، من جهة إصداره ، أو أن صاحبها أودع في الخزينة قيمتها من النقدين فتكون كالوديعة ، ومعلوم أن الوديعة لا يصح التصرف بعينها ، ولكن الحكومة تتصرف بتلك الوديعة ، مما يجعلها دَيْنًا مضمونًا بسبب إتلاف الحكومة لها بالتصرف في عين الوديعة 
.
ومما يدعم رأي القائلين بأنها سندات ديون :
أ- التعهد المسجل على الورق النقدي ، بتسليم قيمته من الذهب لحامله عند الطلب .
ب- ضرورة تغطيتها بالذهب والفضة .
جـ- أن قيمتها مكتسبة ، مما تدل عليه من العدد المرقوم عليها ، لا من قيمتها الورقية .
د- ضمان جهة الإصدار لقيمتها عند إلغائها .
|
| ( الجزء رقم : 39، الصفحة رقم: 312) |
|
وممن قاسها على الديون كتاب (الفقة على المذاهب الأربعة) ؛
حيث ذكر آراء المذاهب في زكاة الديون ، ثم حمل آراء المذاهب في الديون على الورق النقدي 
، وزكاة الدين عند الفقهاء تتلخص في الأحكام التالية :
قال الحنفية : بأن الدين ثلاثة أقسام : قوي ومتوسط وضعيف . فالقوي ما كان بسبب قرض ، أو تجارة على معترف به ، ولو مفلسًا ، والمتوسط ما ليس دَين تجارة كطعام وشراب وحاجة أصلية ، والضعيف ما كان مقابل غير المال كالمهر وبدل الخلع ، والدين القوي تجب زكاته كلما قبض منه أربعين درهمًا

.
وقال الحنابلة : إذا كان الدين على معترف به باذل له - فعلى صاحبه زكاته إذا قبضه ، ويؤدي لما مضى ، أما الدين على معسر وجاحد أو مماطل - ففيه روايتان 
.
وقال الشافعية : يزكى الدين إذا كان ثابتًا ، وكان من نوع الدراهم والدنانير وعروض التجارة ، لا ماشية وطعامًا ، وسواء كان حالا أو مؤجلا 
.
وقال المالكية : يزكى الدين ، بعد قبضه لسنة فقط ، إن لم يؤخره فرارًا من الزكاة ، وإلا زكاه لكل عام مضى عند ابن القاسم بشروط ، وهي أن يكون أصله عينًا يسلفها ، أو عروض تجارة يبيعها بثمن ، وأن يقبضه عينًا ذهبًا أو فضة ، ويبلغ المقبوض نصابًا 
.
|
| ( الجزء رقم : 39، الصفحة رقم: 313) |
|
وإذا اعتبرنا الورق النقدي من الديون القوية - فجمهور الفقهاء على وجوب زكاتها ، واشترط
الحنابلة قبضها فعلا - ولكن
الحنفية والمالكية اشترطوا القبض فعلا ، ولكن لما كانت جهة الإصدار كالمدين الحاضر المليء ، فالدين في حكم المقبوض تجب زكاته عند غير
الحنابلة ، والذي يبدو أن
الشافعية وحدهم الذين يرون وجوب زكاة الدين المستقر ولو لم يقبض ، إلا أنه إذا نظرنا للورق النقدي ، من قبيل الحوالة بالمعاطاة على الجهة المصدرة ، وعلمنا أن مشهور مذهب
الشافعية عدم صحة العقود بالمعاطاة - فتكون الحوالة فاسدة لانعدام الإيجاب والقبول ، فلا تزكى إلا بالقبض .
إذا علمنا ذلك فإن كتاب (الفقه على المذاهب الأربعة) قد تساهل في : نسبة أقوال المذاهب لأصحابها في زكاة الورق النقدي ، ولكن الكتاب المذكور قد وجد المخرج من ذلك بأن عدم الإيجاب والقبول اللفظين لا يبطل الحوالة ؛ حيث جرى العرف بذلك ، على أن بعض
الشافعية قال : المراد بالإيجاب والقبول كل ما يشعر بالرضا ، وهو هنا متحقق .
ويبدو أن قياس هذه الأوراق على الدَين لا يستقيم لسببين : الأول : أن الدين في ذمة المدين لا يعد مالا ناميًا ، ولا يتعامل بوثيقته رسميًّا ، ووظيفة هذه الوثيقة هي الحفظ من الضياع ، بخلاف الورق النقدي فهو نام ومتداول يتعامل به الناس ، فلا يمكن عده وثيقة ، والفقهاء إنما حكموا بعدم زكاة الدين ، حتى يقبض ، لهذه العلة

.
الثاني : أن هذه الأوراق أصبحت قيمة في ذاتها ، وبعد أن أصبحت النقود الورقية إلزامية ، لا يمكن استبدالها برصيدها المحفوظ من الذهب والفضة ،
|
| ( الجزء رقم : 39، الصفحة رقم: 314) |
|
وإذا كانت زكاة النقدين معلولة بالثمنية ، وهذه الثمنية تثبت بالاصطلاح - فلا شك في وجوب زكاتها كالفلوس .
وليس ضروريًّا أن يكون الغطاء الذهبي شاملا لكل أوراق الإصدار ، بل إن النقد الائتماني يغطي جزء منه فقط ، ويعطي الباقي بالتزام سلطاني من الحكومة يحدد بقانون .
كما أن التغطية قد لا تكون ذهبًا أو فضة ، فقد تغطي العملة الصادر في ميزانية الدول بمجموع الإنتاج العام كالصادرات الهامة ، والعقارات وبعض المحاصيل الرئيسية كالقطن والقمح ، وفي هذه الحالات يبقى الالتزام الحكومي هو الغطاء دون الذهب والفضة ، فلا مجال إذًا لاعتبار الورق النقدي سندات بديون ، بل ما دام هذا الورق هو وسيط التبادل ومقياس القيم فلا بد من اعتباره نقدًا بعينه ، واعتبارها وثائق ديون يوقع الأمة في حرج كبير ، والحرج مرفوع شرعًا . ويكفي أن نتصور ما يستلزمه هذا القول من آثار فقهية :
إن اعتبار الورق النقدي سندات ديون يستلزم فقهًا :
- عدم جواز اعتبارها رأس مال في السلم ؛ حيث اشترطنا فيه القبض ، وتسليم سند الدين لا يعتبر قبضًا ، بل هو حوالة بالقيمة على جهة الإصدار .
- عدم جواز صرفها بنقد معدني من الذهب أو الفضة ، ولو كان يدًا بيد ؛ لأن هذا الورق سند بدين غائب ، ومن شروط الصرف التقابض في مجلس العقد .
- إن واقع الأمر بعدم إمكان قبض قيمة هذا الورق ، من جهة الإصدار ،
|
| ( الجزء رقم : 39، الصفحة رقم: 315) |
|
يستلزم عدم زكاتها مطلقًا ، عند القائلين باشتراط القبض في زكاة الدين .
-
لا يصح بيع وشراء ما في الذمة من عروض وأثمان بهذه الأوراق ؛ لكونها وثائق بديون غائبة ، وقد
نهى صلى الله عليه وسلم بيع الكالئ بالكالئ 

.
وإذا صح هذا القول باعتبار الورق النقدي دينًا على جهة الإصدار ، في وقت كانت سلطات الإصدار تنفذ تعهدها المكتوب بدفع قيمة البنكنوت ذهبًا أو فضة ، فلا يصح ذلك في زماننا ، حيث يسود مبدأ النقود الإلزامية التي لا تقبل الاستبدال بالذهب أو الفضة ، والتعهد المكتوب عليها مجرد نظام متبع لإصدار النقد ، وإكسابه مزيدًا من الثقة .
إذن فتكييفها الفقهي كديون غير سليم ، بل هي دين من نوع جديد نلتمس له تكييفًا آخر .
القول الثاني : اعتبار الورق النقدي كعروض التجارة .
القول بعرضية الورق النقدي وقياسه على الفلوس مشهور في مذهب
المالكية ، فقد ذكر صاحب [التعليق الحاوي لبعض البحوث على الصاوي ] أن الشيخ
محمد بن علي بن حسين المكي له كتاب في حكم الورق المتعامل به في عصرنا : [شمس الإشراق في التعامل بالأوراق ] تناول الخلاف الفقهي حوله ، كما سئل عنها الشيخ
محمد حبيب الله الشنقيطي فأجاب بما يلي :
بعد أن تحدث عن جواز التعامل بها ؛ لأنها مما له قيمة وثمن معتبر شرعًا وعادة ؛ إذ القيمة تابعة للرغبات ، ذكر فساد قياسها على السفاتج (الحوالات والديون) لعدم المساواة في العلة الجامعة بين المقيس والأصل . |
| ( الجزء رقم : 39، الصفحة رقم: 316) |
|
فمسألة الأنواط ليست من القياس في شيء ، بل هي من باب إدخال الجزئيات تحت الكليات ، ولا يمتنع مثل هذا القياس على المقلد ؛ لأن إلحاق الجزئيات ، بكلية نص عليها الفقهاء ، مما يتمكن كثير من الناس أن يفعله .
إننا لو رجعنا إلى تعريف العروض عند الفقهاء - لما خرجت الأنواط عن كونها عرضا ، فالعرض قيل فيه : (ما عدا العين والطعام - ما سوى النقد - كل ما لا زكاة في عينه ، ومنهم من قال : هو كل ما عدا الحيوان والطعام والنقد) .
هذا استقراء حد العرض عندهم ، وكلها تعتبر الأنواط عرضًا فلا صحة لقول من يمنع كونها عرضا ، وهي ليست مسألة قياسية ، بل جزئية تندرج في كلية العروض : كالفلوس والجلود وغيرها مما تداوله الناس من المسكوكات غير الذهب والفضة - ثم لخص مذهب
المالكية في الفلوس والخلاف في كونها نقدًا أو عَرَضًا ، وكراهة
مالك النسيئة فيها كما تقدم - ومنعه ذلك منع كراهة لا منع تحريم ، ويجوز التفاضل فيها مطلقًا ، ولكن المناجزة فيها أولى وأسلم من النسيئة ، خروجًا من الخلاف وفرارًا من الكراهة .
وإذا عرفنا أن هذا الرأي مدون عام

1339 هـ 1918م ؛ حيث كان العالم قد خرج من الحرب العالمية الأولى ، وما تزال ذكريات الناس متعلقة بالنقد الذهبي والفضي المتداول قبل الحرب ، وعرفنا نفور الناس من النقد الورقي - علمنا واقعية هذا الرأي في زمانه ، ولكنه لا ينطبق على واقعنا المعاصر .
|
| ( الجزء رقم : 39، الصفحة رقم: 317) |
|
وممن قال بعرضية الورق النقد علامة القصيم الشيخ
عبد الرحمن آل سعدي ، رحمه الله ، فقد قال في فتاويه : (
أنه يجب بها الواجبات الشرعية : كالزكاة ، والنفقات ، والكفارات المالية ، ولكنه لم يجر عليها أحكام الربا كالنقدين ؛ حيث علل ذلك بأن التعامل يقع على نفس القرطاس والورق ، فهو المقصود لفظًا ومعنى ، وهو ليس ذهبًا ولا فضة ، فلا يدخل في أعيان الربا الستة ، وهذا الورق ، وإن اتصف بالثمنية كالنقدين ، لكنه يخالفهما في ذاته ومعدنه ، فلا يعطى حكم الذهب والفضة بإطلاق ، كما أن أنواع الجواهر الثمينة لا يحكم لها بأحكام النقدين ، وإلا لأدخلنا في كلام الشارع ما ليس منه .
والشيخ ، كما يبدو ، يرى علة الأعيان الربوية قاصرة ، كما هو قول
ابن عقيل من
الحنابلة ، والمشهور عند
الحنابلة أن الوزن هو العلة ، ولا يتحقق الوزن في النقد الورقي ، فتعين أنه بمنزلة العروض والفلوس المعدنية يجوز التفاضل فيها ويحرم النسيئة

؛ فالورق النقدي مال متقوم مرغوب فيه مدخر ، يخالف النقدين ذاتًا ومعدنًا ، وهو ليس مكيلا ولا موزونًا ولا من جنس الأعيان الربوية الستة .
ولكن إذا اعتبرنا الورق النقدي من عروض التجارة - فسيترتب على قولنا الأحكام التالية :
أ- عدم جواز السَّلَم بها ، فلا تكون رأسَ مالِ سَلَمٍ عند من اشترط كونه نقدًا ؛ لأنها ليست أثمانًا ، وإنما هي عروض تجارة .
ب- عدم جريان الربا بنوعيه فيها ، وتحرزهم من النسيئة إنما هو بسبب
|
| ( الجزء رقم : 39، الصفحة رقم: 318) |
|
الثمنية الاصطلاحية ، التي يمكن رفعها عند
الحنفية ، كما تقدم في الفلوس .
جـ- عدم وجوب الزكاة فيها إلا إذا اتخذت بنية التجارة .
وهذا يعني فتح باب الربا على مصراعيه ، ويتسع الخرق أكثر مما نحن فيه ، فيجب تدارك الأمر بالاعتراف للنقد الورقي أنه صار من جنس الأثمان ، ولو بالغلبة ، وغلبة الثمنية علة كافية عند
المالكية ، فلا يمكن أبدًا تجاهل صفة الورق النقدي ، كنقود وأثمان ، قياسًا على الذهب والفضة ، كيف لا وقد اختفى الذهب والفضة من التداول ، وحل محله هذه الأوراق ؟ .
القول الثالث : إلحاقها بالفلوس .
عرفنا في مبحث الفلوس أنها ليست ذهبًا ولا فضة ، بل هي في الغالب من النحاس والبرونز ، وأنها لا زكاة فيها عند بعض المذاهب ، إلا إذا اتخذت للتجارة ، فتزكى كالعروض بقيمتها ، وعرفنا أن من رأي الشيخ
عبد الرحمن آل سعدي قياسها على الفلوس ، فأثبت لها حرمة النسيئة مع جواز التفاضل ، واستدل الشيخ لرأيه

أن الأصل في المعاملات الحل ، وأن ربا الفضل حُرِّم سدًّا للذرائع ، وأبيح منه ما تستلزمه الضرورة ، كما أوضحه
ابن القيم في إعلام الموقعين .
وقد ذهب
الشافعية إلى جواز التفاضل فيها ، إذا كان يدًا بيدٍ ؛ لعموم الحديث :
فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدًا بيد 
، والورق النقدي يشبه الفلوس في بعض هذه الأمور ، فيعد بمنزلة الفلوس ، ولو تعددت جهات إصداره ، ولكن التفرقة بين ربا الفضل والنسيئة على رأي الإمام
ابن القيم |
| ( الجزء رقم : 39، الصفحة رقم: 319) |
|
لا يسلم به العلماء ، فالجنس الربوي الواحد ، يحرم الفضل والنسيئة فيه كالذهب بالذهب ، فكذا الورق النقدي يجب أن يكون كذلك .
والقائسون على الفلوس ، يرون وجه الشبه كون الفلوس يتجاذبها عاملان - أصلها العرضي وواقعها النقدي ، فهي وسط بينهما ، وهذه الإجابة مردودة ؛ لأن الشيء إذا تنازعه حاظر ومبيح - قدم الحظر مطلقًا للاحتياط ، ولا بد من الجزم بأحد الحكمين .
ولكن هل تصح دعوى قياس الورق النقدي على الفلوس ، وهل الصفة النقدية في الأنواط المعاصرة كالصفة النقدية للفلوس؟ فالفلوس تاريخيًّا تستخدم لشراء التوافه ، للمعاملة مع النصارى ، فهل النقد الورقي كذلك ؟ ومن صار أكثر ماله الفلوس عد مفلسًا ، فهل يعد من جمع الملايين من الورق النقدي مفلسًا في عرفنا المعاصر؟ فالواقع يرفض قياس الورق النقدي على الفلوس . ثم إن القياس الأصولي لا تتحقق أركانه هنا ، بل يعد قياس الورق النقدي على الفلوس من القياس الفاسد لسببين : الأول : يشترط في المقيس عليه - الأصل- أن يكون له حكم ثابت بنفسه ، فإن لم يوجد له حكم ثابت من الكتاب والسنة والإجماع - فلا يصح جعله أصلا يقاس عليه ؛ لعدم وجود حكم الأصل .
الثاني : من شروط حكم الأصل أن يثبت بغير القياس في أشهر أقوال الأصوليين ، أما الحكم الثابت بالقياس - فلا يقاس عليه ؛ لاستلزامه وجود قياسين أحدهما لإثبات حكم الأصل ، والثاني لإثبات حكم الفرع ، فإذا اتحد القياسان في العلة - فلا حاجة للقياس الثاني ، فالفلوس مقيسة على النقدين ، والورق النقدي يجب أن يقاس عليهما لا على الفلوس بجامع الثمنية .
|
| ( الجزء رقم : 39، الصفحة رقم: 320) |
|
وحكم الفلوس ثابت عند
المالكية ، بقياسها على الذهب والفضة ، فيمكن قياس الورق النقدي على الأصل المقيس عليه - الذهب والفضة - ثم إن الصفة النقدية (جوهر الثمنية روح الثمنية ) في الورق النقدي أكبر بكثير من الصفة النقدية في الفلوس ، التي تعد ضعيفة الثمنية بالنسبة للورق النقدي الذي يصرف كرواتب للعمال ، ومهور للزواج ، وديات ، وأروش ضمان ، وسائر المعاملات .
فقياس الورق النقدي على الفلوس غير صحيح ؛ لأن هذا الورق موغل في الثمنية إيغالا شديدًا ، بل أصبح اليوم ثمنًا للذهب والفضة نفسهما ، ويشترى به كل ما يحتاجه المجتمع من الزبدة إلى الطائرات .
والقياس الحق أن يقاس الورق على الذهب والفضة الثابت حكمهما بالنص ، وعلة الثمنية متوفرة في الأصل والفرع ، وبهذا القياس يصبح الورق النقدي مالا ربويًّا ؛ لوجود مناط الحكم فيه

.
وهناك فارق آخر لم ينتبه إليه القائسون على الفلوس ، وهو أن الفلوس إذا كسدت تفقد قيمتها كنقود ، وتعود عروض تجارة ، ولكن الورق النقدي بانتقاله من العرض إلى الثمنية لا يمكنه الرجوع إلى العرضية ، إذا سلبت صفته النقدية بإبطاله ، بل يفقد كل قيمة نهائيًّا ، ويصبح ورقًا تافهًا .
القول الرابع : اعتبار الورق النقدي نقدًا ، بديلا عن الذهب والفضة .
ذهب جمهور الفقهاء المعاصرين أن الورق النقدي بديل عن الذهب والفضة ، والبدل له حكم المبدل منه تمامًا في كل الأحكام ؛ ومن الفقهاء القائلين بذلك الشيخ :
حسنين مخلوف في رسالته : (التبيان في زكاة
|
| ( الجزء رقم : 39، الصفحة رقم: 321) |
|
الأثمان) قال : (
ولو فرض أنه ليس في البنك شيء من النقود - الرصيد - ونظر إلى تلك الأوراق في ذاتها ، بقطع النظر عما يعادلها من الذهب وعن الالتزام المرقوم عليها ، واعتبر فقط إصدار الحكومة لها ورواجها أثمانًا - لكانت كالنقدين تجب زكاتها لمجرد الثمنية ، ولو لم تكن خلقية ( كالفلوس والجلود والكواغد ) ، وقد رجح هذا الرأي صاحب الفتح الرباني

والدكتور
القرضاوي في فقه الزكاة
والشيخ رشيد رضا - صاحب المنار - حيث سئل عن القراطيس المالية ، فأجاب بأنها من قبيل النقود الذهبية ، نقدًا لا عروض تجارة ، تجب فيها الزكاة ، ويحرم فيها الربا ؛ لأنها تروج في الأسواق كالنقدين تمامًا 
واستمع إلى أحد شيوخ
المالكية يلخص رأيه فيها فيقول

:
| للمــــالكيين اخــــتلاف فــــي الفلــــوسْ | هـــل عيـــن أو عَـــرَض كلاهمـــا مقيسْ |
| وألحــــــقوا بهــــــا الكواغــــــد التــــــي | بهــــــــا التعـــــــامل بكـــــــل دولـــــــةِ |
| قـال الرهــوني الاخــتلاف فـي الفلـوسْ | جـــدًّا قــــوي فاكفنــــا شــــر النفــــوس |
| فمــــن يقــــل بـــالعَيْن أوجـــب الزكـــاة | ومنــع الصــرف مؤخــرًا ثبـات (جماعـات) |
| وقــــــال هـــــي بـــــدل عـــــن عيـــــن | لـــــــذاك راجـــــــت بــــــرواج العيــــــن |
|
|
| ( الجزء رقم : 39، الصفحة رقم: 322) |
|
| أو هـــي مثـــل العيـــن فـــي التعـــارفِ | لــــــذاك صــــــارت قيمــــــة المتـــــالفِ |
| وهـــي حقيقــــة مـــع العيـــن عـــروض | وهـــــل تقـــــوم العــــروض بــــالعروض |
| فـــإن تكـــن قـــد أفـــردت صــارت ثمــنْ | أغلبيًــــا وذاك فـــــي الربـــــا اســـــتكن |
| فعمــــل النــــائب فـــي فقـــد المنـــوب | كــــتب فــــي الكــــاغد معنـــى لينـــوب |
| إذ شــــــهَّر العــــــدوي علــــــة الربـــــا | فـــي النقـــد بـــالتثمين الأغلـــب اطلبــا |
| وقيـــــل بـــــل مطلـــــق تثميــــن ربــــا | فتدخــل الفلــوس فــي الخرشــي الربــا |
| فالشــــيء إن يقــــم مقــــام الشــــيء | فحــــــــكم الأول لــــــــذاك الشـــــــيء |
| فـــي مســـلم بيـــع صكــاك ذي طعــام | مــــن قبــــل قبضــــه كــــبيع للطعــــام |
| يؤخـــــذ مــــــن ذا أن حــــــكم العيـــــن | للكــــــاغد الــــــرايج حــــــكم العيــــــن |
| لا ســـيما والمـــال فـــي هـــذا الزمـــان | كـــــــثر جـــــــدًّا بــــــالكواغد الثمــــــان |
|
وملخص رأيه أن الكاغد مقيس على الفلوس ، وأنها بمقابلتها بالذهب والفضة تعتبر عروضًا ، فإذا انفردت أصبحت ثمنًا مستقلا ، ينوب عن النقدين الغائبين عن مجال التداول ، ويثبت للنائب أحكام المنوب عنه ، وعلة
|
| ( الجزء رقم : 39، الصفحة رقم: 323) |
|
الربا الثمينة مختلف في طبيعتها ؛ فغلبة الثمنية هي المناط في حاشية
العدوي ، وقال
الخرشي : يكفي مطلق الثمنية في تحقيق العلة ، وحيث قامت الثمنية ولو قليلة في الكاغد والفلوس تدخل الأموال الربوية .
واستدل على أن للنائب حكم المنوب ، بما روى
مسلم في صحيحه ، وهو في الموطأ : قال
مالك : أنه بلغه أن صكوكًا خرجت للناس في زمن
مروان بن الحكم من
طعام (الجار ) [مكان
بساحل البحر الأحمر يجمع فيه الطعام] ، فتبايع الناس تلك الصكوك قبل أن يستوفوها ، فدخل
زيد بن ثابت ورجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم - صرح
مسلم في روايته أنه
أبو هريرة رضي الله عنهم- على
مروان بن الحكم فقالا : أتُحل الربا يا
مروان ؟ فقال أعوذ بالله وما ذلك؟ فقالا : هذه الصكوك تبايعها الناس ، ثم باعوها قبل أن يستوفوها ، فبعث
مروان بن الحكم الحرس ليتبعونها ينزعونها من أيدي الناس ويردونها إلى أهلها

.
والصكوك رقاع مكتوب فيها أعطيات الناس من الطعام ، والظاهر أنها راجت كرواج النقد الورقي المعاصر ، ولكن المنع الذي فرضه الصحابة إنما كان على بيع الطعام قبل قبضه ، ولكن يستدل منها أن ما ناب عن الطعام له حكم الطعام ، فكذلك ما ناب عن الذهب له حكم الذهب .
القول الخامس : الورق النقدي نقد مستقل .
انطلاقًا من التعليل بالثمنية قررت هيئة كبار العلماء ، في
المملكة العربية السعودية ، في فتواها الخاصة بشأن الورق النقدي ما يلي :
(وحيث إن القول باعتبار مطلق الثمنية علة في جريان الربا في النقدين |
| ( الجزء رقم : 39، الصفحة رقم: 324) |
|
هو الأظهر دليلا والأقرب إلى مقاصد الشريعة ، وهو إحدى الروايات عن الأئمة
مالك والشافعي وأحمد وأبي حنيفة ، ورجحه شيخ الإسلام
ابن تيمية ، وتلميذه
ابن القيم وغيرهما ، وحيث إن الثمنية متحققة بوضوح في الأوراق النقدية ؛ لذلك كله فإن هيئة كبار العلماء تقرر بأكثريتها : أن الورق النقدي يعتبر نقدًا قائمًا بذاته كقيام النقدية في الذهب والفضة وغيرهما من الأثمان ، وأنه أجناس تتعدد بتعدد جهات الإصدار ، بمعنى أن الورق النقدي السعودي جنس ، والأمريكي جنس ، وهكذا كل عملة ورقية جنس مستقل بذاته ، وأنه يترتب على ذلك الأحكام الشرعية الآتية :
أولا : جريان الربا بنوعيه فيها ، كما يجري الربا بنوعيه في الذهب والفضة وفي غيرهما من الأثمان كالفلوس ، وهذا يقتضي ما يلي :
أ- لا يجوز بيع بعضه ببعض أو بغيره من الأجناس النقدية الأخرى ، من ذهب أو فضة أو غيرهما ، نسيئة مطلقًا ، فلا يجوز مثلا بيع الدولار الأمريكي بخمسة أريلة سعودية أو أقل أو أكثر نسيئة .
ب- لا يجوز بيع الجنس الواحد منه ببعضه متفاضلا [يدًا بيد أو نسيئة ] ، فلا يباع عشرة أريلة بأحد عشر ريالا سعوديًّا ورقًا .
ج- يجوز بيع بعضه ببعض من غير جنسه ، إذا كان يدًا بيد ، فيجوز بيع الليرة السورية أو اللبنانية بريال سعودي ورقًا أو فضة أو أقل أو أكثر يدًا بيد ، ومثل ذلك بيع الريال السعودي الفضة بثلاثة أريلة سعودية من الورق أو أقل أو أكثر يدًا بيد ؛ لأن ذلك يعتبر بيع جنس بغير جنسه ، ولا أثر لمجرد الاشتراك في الاسم مع الاختلاف في الحقيقة .
ثانيًا : وجوب زكاتها إذا بلغت قيمتها أدنى النصابين من الذهب أو
|
| ( الجزء رقم : 39، الصفحة رقم: 325) |
|
الفضة ، أو كملت النصاب مع غيرها من الأثمان وعروض التجارة ، إذا ملكها أهل وجوبها .
ثالثًا : جواز جعلها رأس مال للسَّلَم والشركات )

.